فصل: الآية رقم ‏(‏ 49 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 38 ‏)‏

‏{‏ وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا‏}‏

قوله ‏{‏وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا‏}‏كله معطوف على ‏{‏قوم نوح‏}‏إذا كان ‏{‏قوم نوح‏}‏منصوبا على العطف، أو بمعنى اذكر‏.‏ ويجوز أن يكون كله منصوبا على أنه معطوف على المضمر في ‏{‏دمرناهم‏}‏أو على المضمر في ‏{‏جعلناهم‏}‏وهو اختيار النحاس؛ لأنه أقرب إليه‏.‏ ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار فعل؛ أي اذكر عادا الذين كذبوا هودا فأهلكهم الله بالريح العقيم، وثمودا كذبوا صالحا فأهلكوا بالرجفة‏.‏ و‏{‏أصحاب الرس‏}‏والرس في كلام العرب البئر التي تكون غير مطوية، والجمع رساس‏.‏ قال‏:‏

تنابلة يحفرون الرساسا

يعني آبار المعادن‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ سألت كعبا عن أصحاب الرس قال‏:‏ صاحب يس الذيقال ‏{‏يا قوم اتبعوا المرسلين‏}‏ قتله قومه ورسوه في بئر لهم يقال لها الرس طرحوه فيها، وكذا قال مقاتل‏.‏ السدي‏:‏ هم أصحاب قصة يس أهل أنطاكية، والرس بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار مؤمن آل يس فنسبوا إليها‏.‏ وقال علي رضي الله عنه‏:‏ هم قوم كانوا يعبدون شجرة صنوبر فدعا عليهم نبيهم؛ وكان من ولد يهوذا، فيبست الشجرة فقتلوه ورسوه في بئر، فأظلتهم سحابة سوداء فأحرقتهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هم قوم بأذربيجان قتلوا أنبياء فجفت أشجارهم وزروعهم فماتوا جوعا وعطشا‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ كانوا أهل بئر يقعدون عليها وأصحاب مواشي، وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم شعيبا فكذبوه وآذوه، وتمادوا على كفرهم وطغيانهم، فبينما هم حول البئر في منازلهم انهارت بهم وبديارهم؛ فخسف الله بهم فهلكوا جميعا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أصحاب الرس وأصحاب الأيكة أمتان أرسل الله إليهما شعيبا فكذبوه فعذبهما الله بعذابين‏.‏ قال قتادة‏:‏ والرس قرية بفلج اليمامة‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ هم قوم رسوا نبيهم في بئر حيا‏.‏ دليله ما روى محمد ابن كعب القرظي عمن حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة عبد أسود وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى قومه فلم يؤمن به إلا ذلك الأسود فحفر أهل القرية بئرا وألقوا فيها نبيهم حيا وأطبقوا عليه حجرا ضخما وكان العبد الأسود يحتطب على ظهره ويبيعه ويأتيه بطعامه وشرابه فيعينه الله على رفع تلك الصخرة حتى يدليه إليه فبينما هو يحتطب إذ نام فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما ثم هب من نومه فتمطى واتكأ على شقه الآخر فضرب الله على أذنه سبع سنين ثم هب فاحتمل حزمة الحطب فباعها وأتى بطعامه وشرابه إلى البئر فلم يجده وكان قومه قد أراهم الله تعالى آية فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه ومات ذلك النبي‏)‏‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن ذلك العبد الأسود لأول من يدخل الجنة‏)‏ وذكر هذا الخبر المهدوي والثعلبي، واللفظ للثعلبي، وقال‏:‏ هؤلاء آمنوا بنبيهم فلا يجوز أن يكونوا أصحاب الرس؛ لأن الله تعالى أخبر عن أصحاب الرس أنه دمرهم، إلا أن يدمروا بأحداث أحدثوها بعد نبيهم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ أصحاب الرس قوم أرسل الله إليهم نبيا فأكلوه‏.‏ وهم أول من عمل نساؤهم السحق؛ ذكره الماوردي‏.‏ وقيل‏:‏ هم أصحاب الأخدود الذين حفروا الأخاديد وحرقوا فيها المؤمنين، وسيأتي‏.‏ وقيل‏:‏ هم بقايا من قوم ثمود، وأن الرس البئر المذكورة في - الحج - في قوله ‏{‏وبئر معطلة‏}‏ على ما تقدم‏.‏ وفي الصحاح‏:‏ والرس اسم بئر كانت لبقية من ثمود‏.‏ وقال جعفر بن محمد عن أبيه‏:‏ أصحاب الرس قوم كانوا يستحسنون لنسائهم السحق، وكان نساؤهم كلهم سحاقات‏.‏ وروي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن من أشراط الساعة أن يكتفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء وذلك السحق‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ الرس ماء ونخل لبني أسد‏.‏ وقيل‏:‏ الثلج المتراكم في الجبال؛ ذكره القشيري‏.‏ وما ذكرناه أولا هو المعروف، وهو كل حفر احتفر كالقبر والمعدن والبئر‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ الرس كل ركية لم تطو؛ وجمعها رساس‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وهم سائرون إلى أرضهم فيا ليتهم يحفرون الرساسا

والرس اسم واد في قول زهير‏:‏

بكرن بكورا واستحرن بسحرة فهن لوادي الرس كاليد للفم

ورسست رسا‏:‏ حفرت بئرا‏.‏ ورس الميت أي قبر‏.‏ والرس‏:‏ الإصلاح بين الناس، والإفساد أيضا وقد رسست بينهم؛ فهو من الأضداد‏.‏ وقد قيل في أصحاب الرس غير ما ذكرنا، ذكره الثعلبي وغيره‏.‏ ‏{‏وقرونا بين ذلك كثيرا‏}‏أي أمما لا يعلمهم إلا الله بين قوم نوح وعاد‏.‏ وثمود وأصحاب الرس‏.‏ وعن الربيع بن خيثم اشتكى فقيل له‏:‏ ألا تتداوى فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر به‏؟‏ قال‏:‏ لقد هممت بذلك ثم فكرت فيما بيني وبين نفسي فإذا عاد وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا كانوا أكثر وأشد حرصا على جمع المال، فكان فيهم أطباء، فلا الناعت منهم بقي ولا المنعوت؛ فأبى أن يتداوى فما مكث إلا خمسة أيام حتى مات، رحمه الله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 39 ‏)‏

‏{‏ وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا ‏}‏

قوله ‏{‏وكلا ضربنا له الأمثال‏}‏قال الزجاج‏.‏ أي وأنذرنا كلا ضربنا له الأمثال وبينا لهم الحجة، ولم نضرب لهم الأمثال الباطلة كما يفعله هؤلاء الكفرة‏.‏ وقيل‏:‏ انتصب على تقدير ذكرنا كلا ونحوه؛ لأن ضرب الأمثال تذكير ووعظ؛ ذكره المهدوي‏.‏ والمعنى واحد‏.‏ ‏{‏وكلا تبرنا تتبيرا‏}‏أي أهلكنا بالعذاب‏.‏ وتبرت الشيء كسرته‏.‏ وقال المؤرج والأخفش‏:‏ دمرناهم تدميرا‏.‏ تبدل التاء والباء من الدال والميم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 40 ‏)‏

‏{‏ ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا ‏}‏

قوله ‏{‏ولقد أتوا على القرية‏}‏يعني مشركي مكة‏.‏ والقرية قرية قوم لوط‏.‏ والحجارة التي أمطروا بها‏.‏ ‏{‏مطر السوء‏}‏الحجارة التي أمطروا بها‏.‏ ‏{‏أفلم يكونوا يرونها‏}‏أي في أسفارهم ليعتبروا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كانت قريش في تجارتها إلى الشام تمر بمدائن قوم لوط كما قال الله ‏{‏وإنكم لتمرون عليهم مصبحين‏}‏ وقال ‏{‏وإنهما لبإمام مبين‏}‏‏.‏ ‏{‏بل كانوا لا يرجون نشورا‏}‏أي لا يصدقون بالبعث‏.‏ ويجوز أن يكون معنى ‏{‏يرجون‏}‏يخافون‏.‏ ويجوز أن يكون على بابه ويكون معناه‏:‏ بل كانوا لا يرجون ثواب الآخرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 41 ‏:‏ 42 ‏)‏

‏{‏ وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا، إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا ‏}‏

قوله ‏{‏وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا‏}‏جواب ‏{‏إذا‏}‏‏{‏إن يتخذونك‏}‏لأن معناه يتخذونك‏.‏ وقيل‏:‏ الجواب محذوف وهو قالوا أو يقولون‏}‏أهذا الذي‏}‏وقوله ‏{‏إن يتخذونك إلا هزوا‏}‏كلام معترض‏.‏ ونزلت في أبي جهل كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم مستهزئا‏}‏أهذا الذي بعث الله رسولا‏}‏والعائد محذوف، أي بعثه الله‏.‏ ‏{‏رسولا‏}‏نصب على الحال والتقدير‏:‏ أهذا الذي بعثه الله مرسلا‏.‏ ‏{‏أهذا‏}‏رفع بالابتداء و‏{‏الذي‏}‏خبره‏.‏ ‏{‏رسولا‏}‏نصب على الحال‏.‏ و‏{‏بعث‏}‏في صلة ‏{‏الذي‏}‏واسم الله عز وجل رفع بـ ‏{‏بعث‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون مصدرا؛ لأن معنى ‏{‏بعث‏}‏أرسل ويكون معنى رسولا‏}‏رسالة على هذا‏.‏ والألف للاستفهام على معنى التقرير والاحتقار‏.‏‏{‏إن كاد ليضلنا‏}‏أي قالوا قد كاد أن يصرفنا‏.‏ ‏{‏عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها‏}‏أي حبسنا أنفسنا على عبادتها‏.‏ ‏{‏وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا‏}‏يريد من أضل دينا أهم أم محمد، وقد رأوه في يوم بدر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 43 ‏)‏

‏{‏أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ‏}‏

قوله ‏{‏أرأيت من اتخذ إلهه هواه‏}‏عجب نبيه صلى الله عليه وسلم من إضمارهم على الشرك وإصرارهم عليه مع إقرارهم بأنه خالقهم ورازقهم، ثم يعمد إلى حجر يعبده من غير حجة‏.‏ قال الكلبي وغيره‏:‏ كانت العرب إذا هوي الرجل منهم شيئا عبده من دون الله، فإذا رأى أحسن منه ترك الأول وعبد الأحسن؛ فعلى هذا يعني‏:‏ أرأيت من اتخذ إلهه بهواه؛ فحذف الجار‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الهوى إله يعبد من دون الله، ثم تلا هذه الآية‏.‏ قال الشاعر‏:‏

لعمر أبيها لو تبدت لناسك قد اعتزل الدنيا بإحدى المناسك

لصلى لها قبل الصلاة لربه ولارتد في الدنيا بأعمال فاتك

وقيل ‏{‏اتخذ إلهه هواه‏}‏أي أطاع هواه‏.‏ وعن الحسن لا يهوى شيئا إلا أتبعه، والمعنى واحد‏.‏ ‏{‏أفأنت تكون عليه وكيلا‏}‏أي حفيظا وكفيلا حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من هذا الفساد‏.‏ أي ليست الهداية والضلالة موكولتين إلى مشيئك، وإنما عليك التبليغ‏.‏ وهذا رد على القدرية‏.‏ ثم قيل‏:‏ إنها منسوخة بآية القتال‏.‏ وقيل‏:‏ لم تنسخ؛ لأن الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 44 ‏)‏

‏{‏ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ‏}‏

قوله ‏{‏أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون‏}‏ولم يقل أنهم لأن منهم من قد علم أنه يؤمن‏.‏ وذمهم جل وعز بهذا‏.‏ ‏{‏أم تحسب أن أكثرهم يسمعون‏}‏سماع قبول أو يفكرون فيما تقول فيعقلونه؛ أي هم بمنزلة من لا يعقل ولا يسمع‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أنهم لما لم ينتفعوا بما يسمعون فكأنهم لم يسمعوا؛ والمراد أهل مكة‏.‏ وقيل ‏{‏أم‏}‏بمعنى بل في مثل هذا الموضع‏.‏ ‏{‏إن هم إلا كالأنعام‏}‏أي في الأكل والشرب لا يفكرون في الآخرة‏.‏ ‏{‏بل هم أضل سبيلا‏}‏إذ لا حساب ولا عقاب على الأنعام‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ البهائم تعرف ربها وتهتدي إلى مراعيها وتنقاد لأربابها التي تعقلها، وهؤلاء لا ينقادون ولا يعرفون ربهم الذي خلقهم ورزقهم‏.‏ وقيل‏:‏ لأن البهائم إن لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك أيضا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 45 ‏:‏ 46 ‏)‏

‏{‏ ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا، ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا ‏}‏

قوله ‏{‏ألم تر إلى ربك كيف مد الظل‏}‏يجوز أن تكون هذه الرؤية من رؤية العين، ومجوز أن تكون من العلم‏.‏ وقال الحسن وقتادة وغيرهما‏:‏ مد الظل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس‏.‏ وقيل‏:‏ هو من غيوبة الشمس إلى طلوعها‏.‏ والأول أصح؛ والدليل على ذلك أنه ليس من ساعة أطيب من تلك الساعة؛ فإن فيها يجد المريض راحة والمسافر وكل ذي علة‏:‏ وفيها ترد نفوس الأموات والأرواح منهم إلى الأجساد، وتطيب نفوس الأحياء فيها‏.‏ وهذه الصفة مفقودة بعد المغرب‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ نهار الجنة هكذا؛ وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر‏.‏ أبو عبيدة‏:‏ الظل بالغداة والفيء بالعشي؛ لأنه يرجع بعد زوال الشمس؛ سمي فيئا لأنه فاء من المشرق إلى جانب المغرب‏.‏ قال الشاعر، وهو حميد بن ثور يصف سرحة وكني بها عن امرأة‏:‏

فلا الظل من برد الضحا تستطيعه ولا الفيء من برد العشي تذوق

وقال ابن السكيت‏:‏ الظل ما نسخته الشمس والفيء ما نسخ الشمس‏.‏ وحكى أبو عبيدة عن رؤية قال‏:‏ كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل‏.‏ ‏{‏ولو شاء لجعله ساكنا‏}‏أي دائما مستقرا لا تنسخه الشمس‏.‏ ابن عباس‏:‏ يريد إلى يوم القيامة، وقيل‏:‏ المعنى لو شاء لمنع الشمس الطلوع‏.‏ ‏{‏ثم جعلنا الشمس عليه دليلا‏}‏أي جعلنا الشمس بنسخها الظل عند مجيئها دالة على أن الظل شيء ومعنى؛ لأن الأشياء تعرف بأضدادها ولولا الشمس ما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة‏.‏ فالدليل فعيل بمعنى الفاعل‏.‏ وقيل‏:‏ بمعنى المفعول كالقتيل والدهين والخضيب‏.‏ أي دللنا الشمس على الظل حتى ذهبت به؛ أي أتبعناها إياه‏.‏ فالشمس دليل أي حجة وبرهان، وهو الذي يكشف المشكل ويوضحه‏.‏ ولم يؤنث الدليل وهو صفة الشمس لأنه في معنى الاسم؛ كما يقال‏:‏ الشمس برهان والشمس حق‏.‏‏{‏ثم قبضناه‏}‏يريد ذلك الظل الممدود‏.‏ ‏{‏إلينا قبضا يسيرا‏}‏أي يسيرا قبضه علينا‏.‏ وكل أمر ربنا عليه يسير‏.‏ فالظل مكثه في هذا الجو بمقدار طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس صار الظل مقبوضا، وخلفه في هذا الجو شعاع الشمس فأشرق على الأرض وعلى الأشياء إلى وقت غروبها، فإذا غربت فليس هناك ظل، إنما ذلك بقية نور النهار‏.‏ وقال قوم‏:‏ قبضه بغروب الشمس؛ لأنها ما لم تغرب فالظل فيه بقية، وإنما يتم زواله بمجيء الليل ودخول الظلمة عليه‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذا القبض وقع بالشمس؛ لأنها إذا طلعت أخذ الظل في الذهاب شيئا فشيئا؛ قاله أبو مالك وإبراهيم التيمي‏.‏ وقيل ‏{‏ثم قبضناه‏}‏أي قبضنا ضياء الشمس بالفيء ‏{‏قبضا يسيرا‏}‏‏.‏ وقيل ‏}‏يسيرا‏}‏أي سريعا، قاله الضحاك‏.‏ قتادة‏:‏ خفيا؛ أي إذا غابت الشمس قبض الظل قبضا خفيا؛ كلما قبض جزء منه جعل مكانه جزء من الظلمة، وليس يزول دفعة واحدة‏.‏ فهذا معنى قول قتادة؛ وهو قول مجاهد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 47 ‏)‏

‏{‏ وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا ‏}‏

قوله ‏}‏وهو الذي جعل لكم الليل لباسا‏}‏يعني سترا للخلق يقوم مقام اللباس في ستر البدن‏.‏ قال الطبري‏:‏ وصف الليل باللباس تشبيها من حيث يستر الأشياء ويغشاها‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ ظن بعض الغفلة أن من صلى عريانا في الظلام أنه يجزئه؛ لأن الليل لباس‏.‏ وهذا يوجب أن يصلي في بيته عريانا إذا أغلق عليه بابه‏.‏ والستر في الصلاة عبادة تختص بها ليست لأجل نظر الناس‏.‏ ولا حاجة إلى الإطناب في هذا‏.‏

قوله ‏}‏والنوم سباتا‏}‏أي راحة لأبدانكم بانقطاعكم عن الأشغال‏.‏ وأصل السبات من التمدد‏.‏ يقال‏:‏ سبتت المرأة شعرها أي نقضته وأرسلته‏.‏ ورجل مسبوت أي ممدود الخلقة‏.‏ وقيل‏:‏ للنوم سبات لأنه بالتمدد يكون، وفي التمدد معنى الراحة‏.‏ وقيل‏:‏ السبت القطع؛ فالنوم انقطاع عن الاشتغال؛ ومنه سبت اليهود لانقطاعهم عن الأعمال فيه‏.‏ وقيل‏:‏ السبت الإقامة في المكان؛ فكأن السبات سكون ما وثبوت عليه؛ فالنوم سبات على معنى أنه سكون عن الاضطراب والحركة‏.‏ وقال الخليل‏:‏ السبات نوم ثقيل؛ أي جعلنا نومكم ثقيلا ليكمل الإجمام والراحة‏.‏

قوله ‏}‏وجعل النهار نشورا‏}‏من الانتشار للمعاش؛ أي النهار سبب الإحياء للانتشار‏.‏ شبه اليقظة فيه بتطابق الإحياء مع الإماتة‏.‏ وكان عليه السلام إذا أصبح قال‏:‏ ‏(‏الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور ‏)‏

 الآية رقم ‏(‏ 48 ‏)‏

‏{‏ وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا ‏}‏

قوله ‏}‏وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته‏}‏تقدم في الأعراف ‏.‏

قوله ‏{‏ماء طهورا‏}‏يتطهر به؛ كما يقال‏:‏ وضوء للماء الذي يتوضأ به‏.‏ وكل طهور طاهر وليس كل طاهر طهورا‏.‏ فالطهور بفتح الطاء الاسم‏.‏ وكذلك الوضوء والوقود‏.‏ وبالضم المصدر، وهذا هو المعروف في اللغة؛ قاله ابن الأنباري‏.‏ فبين أو الماء المنزل من السماء طاهر في نفسه مطهر لغيره؛ فإن الطهور بناء مبالغة في طاهر وهذه المبالغة اقتضت أن يكون طاهرا مطهرا‏.‏ وإلى هذا مذهب الجمهور‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏{‏طهورا‏}‏بمعنى طاهر؛ وهو قول أبي حنيفة؛ وتعلق بقوله ‏{‏وسقاهم ربهم شرابا طهورا‏}‏ يعني طاهرا‏.‏ ويقول الشاعر‏:‏

خليلي هل في نظرة بعد توبة أداوي بها قلبي علي فجور

إلى رجح الأكفال غيد من الظبا عذاب الثنايا ريقهن طهور

فوصف الريق بأنه طهور وليس بمطهر‏.‏ وتقول العرب‏:‏ رجل نؤوم وليس ذلك بمعنى أنه‏.‏ منيم لغيره، وإنما يرجع ذلك إلى فعل نفسه‏.‏ ولقد أجاب علماؤنا عن هذا فقالوا‏:‏ وصف شراب الجنة بأنه طهور يفيد التطهير عن أوضار الذنوب وعن خسائس الصفات كالغل والحسد، فإذا شربوا هذا الشراب يطهرهم الله من رحض الذنوب وأوضار الاعتقادات الذميمة، فجاؤوا الله بقلب سليم، ودخلوا الجنة بصفات التسليم، وقيل لهم حينئذ ‏}‏سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين‏}‏ ‏.‏ ولما كان حكمه في الدنيا بزوال حكم الحدث بجريان الماء على الأعضاء كانت تلك حكمته في الآخرة‏.‏ وأما قول الشاعر‏:‏

ريقهن طهور

فإنه قصد بذلك المبالغة في وصف الريق بالطهورية لعذوبته وتعلقه بالقلوب، وطيبه في النفوس، وسكون غليل المحب برشفه حتى كأنه الماء الطهور، وبالجملة فإن الأحكام الشرعية لا تثبت بالمجازاة الشعرية؛ فإن الشعراء يتجاوزون في الاستغراق حد الصدق إلى الكذب، ويسترسلون في القول حتى يخرجهم ذلك إلى البدعة والمعصية، وربما وقعوا في الكفر من حيث لا يشعرون‏.‏ ألا ترى إلى قول بعضهم‏:‏

ولو لم تلامس صفحة الأرض رجلها لما كنت أدري علة للتيمم

وهذا كفر صراح، نعوذ بالله منه‏.‏ قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ هذا منتهى لباب كلام العلماء، وهو بالغ في فنه؛ إلا أني تأملت من طريق العربية فوجدت فيه مطلعا مشرقا، وهو أن بناء فعول للمبالغة، إلا أن المبالغة قد تكون في الفعل‏.‏ المتعدي كما قال الشاعر‏:‏

ضروب بنصل السيف سوق سمانها

وقد تكون في الفعل القاصر كما قال الشاعر‏:‏

نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل

وإنما تؤخذ طهورية الماء لغيره من الحسن نظافة ومن الشرع طهارة؛ كقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يقبل الله صلاة بغير طهور‏)‏‏.‏ وأجمعت الأمة لغة وشريعة على أن وصف طهور يختص بالماء فلا يتعدى إلى سائر المائعات وهي طاهرة؛ فكان اقتصارهم بذلك على الماء أدل دليل على أن الطهور هو المطهر، وقد يأتي فعول لوجه آخر ليس من هذا كله وهو العبارة به الآلة للفعل لا عن الفعل كقولنا‏:‏ وقود وسحور بفتح الفاء، فإنها عبارة عن الحطب الطعم المتسحر به؛ فوصف الماء بأنه طهور بفتح الطاء أيضا يكون خبرا عن الآلة التي يتطهر بها‏.‏ فإذا ضمت الفاء في الوقود والسحور والطهور عاد إلى الفعل وكان خبرا عنه‏.‏ فثبت بهذا أن اسم الفعول بفتح الفاء يكون بناء للمبالغة ويكون خبرا عن الآلة، وهو الذي خطر ببال الحنفية، ولكن قصرت أشداقها عن لوكه، وبعد هذا يقف البيان عن المبالغة وعن الآلة على الدليل بقوله ‏{‏وأنزلنا من السماء ماء طهورا‏}‏‏.‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا‏)‏ يحتمل المبالغة ويحتمل العبارة به عن الآلة؛ فلا حجة فيه لعلمائنا، لكن يبقى قول ‏{‏ليطهركم به‏}‏ نص في أن فعله يتعدى إلى غيره‏.‏

المياه المنزلة من السماء المودعة في الأرض طاهرة مطهرة على اختلاف ألوانها وطعومها وأرياحها حتى يخالطها غيرها، والمخالط للماء على ثلاثة اضرب‏:‏ ضرب يوافقه في صفتيه جميعا، فإذا خالطه فغيره لم يسلبه وصفا منهما لموافقته لهما وهو التراب‏.‏ والضرب الثاني يوافقه في إحدى صفتيه وهي الطهارة، فاذا خالطه فغيره سلبه ما خالفه فيه وهو التطهير؛ كماء الورد وسائر الطاهرات‏.‏ والضرب الثالث يخالفه في الصفتين جميعا، فإذا خالطه فغيره سلبه الصفتين جميعا لمخالفته له فيهما وهو النجس‏.‏

ذهب المصريون من أصحاب مالك إلى أن قليل الماء يفسده قليل النجاسة، وأن الكثير لا يفسده إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه من المحرمات‏.‏ ولم يحدوا بين القليل والكثير حدا يوقف عنده، إلا أن ابن القاسم روى عن مالك في، الجنب يغتسل في حوض من الحياض التي تسقى فيها الدواب، ولم يكن غسل ما به من الأذى أنه قد أفسد الماء؛ وهو مذهب ابن القاسم وأشهب وابن عبدالحكم ومن اتبعهم من المصريين‏.‏ إلا ابن وهب فإنه يقول في الماء بقول المدنيين من أصحاب مالك‏.‏ وقولهم ما حكاه أبو مصعب عنهم وعنه‏:‏ أن الماء لا تفسده النجاسة الحالة فيه قليلا كان أو كثيرا إلا أن تظهر فيه النجاسة الحالة فيه وتغير منه طعما أو ريحا أو لونا‏.‏ وذكر أحمد بن المعدل أن هذا قول مالك بن أنس في الماء‏.‏ وإلى هذا ذهب إسماعيل بن إسحاق ومحمد بن بكير وأبو الفرج الأبهري وسائر المنتحلين لمذهب مالك، من البغداديين؛ وهو قول الأوزاعي والليث بن سعد والحسن بن صالح وداود بن علي‏.‏ وهو مذهب أهل البصرة، وهو الصحيح في النظر وجيد الأثر‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا وقعت نجاسة في الماء أفسدته كثيرا كان أو قليلا إذا تحققت عموم النجاسة فيه‏.‏ ووجه تحققها عنده أن تقع مثلا نقطة بول في بركة، فإن كانت البركة يتحرك طرفاها بتحرك أحدهما فالكل نجس، وإن كانت حركة أحد الطرفين لا تحرك الآخر لم ينجس‏.‏ وفي المجموعة نحو مذهب أبي حنيفة‏.‏ وقال الشافعي بحديث القلتين، وهو حديث مطعون فيه؛ اختلف في إسناده ومتنه؛ أخرجه أبو داود والترمذي وخاصة الدارقطني، فإنه صدر به كتابه وجمع طرقه‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وقد رام الدارقطني على إمامته أن يصحح حديث القلتين فلم يقدر‏.‏ وقال أبو عمر بن عبدالبر‏:‏ وأما ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين فمذهب ضعيف من جهة النظر، غير ثابت في الأثر؛ لأنه قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل، ولأن القلتين لا يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع، فلو كان ذلك حدا لازما لوجب على العلماء البحث عنه ليقفوا على حد ما حده النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من أصل دينهم وفرضهم، ولو كان ذلك كذلك ما ضيعوه، فلقد بحثوا عما هو أدون من ذلك وألطف‏.‏

قلت‏:‏ وفيما ذكر ابن المنذر في القلتين من الخلاف يدل على عدم التوقيف فيهما والتحديد‏.‏ وفي سنن الدارقطني عن حماد بن زيد عن عاصم بن المنذر قال‏:‏ القلال الخوابي العظام‏.‏ وعاصم هذا هو أحد رواة حديث القلتين‏.‏ ويظهر من قول الدارقطني أنها مثل قلال هجر؛ لسياقه حديث الإسراء عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لما رفعت إلى سدرة المنتهى في السماء السابعة نبقها مثل قلال هجر وورقها مثل آذان الفيلة‏)‏‏.‏ وذكر الحديث‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وتعلق علماؤنا بحديث أبي سعيد الخدري في بئر بضاعة، رواه النسائي والترمذي وأبو داود وغيرهم‏.‏ وهو أيضا حديث ضعيف لا قدم له في الصحة فلا تعويل عليه‏.‏ وقد فاوضت الطوسي الأكبر في هذه المسألة فقال‏:‏ إن أخلص المذاهب في هذه المسألة مذهب مالك، فإن الماء طهور ما لم يتغير أحد أوصافه؛ إذ لا حديث في الباب يعول عليه، وإنما المعول على ظاهر القرآن وهو قوله ‏{‏وأنزلنا من السماء ماء طهورا‏}‏وهو ما دام بصفاته، فإذا تغير عن شيء منها خرج عن الاسم لخروجه عن الصفة، ولذلك لما لم يجد البخاري إمام الحديث والفقه في الباب خبرا يعول عليه قال باب إذا تغير وصف الماء‏)‏ وأدخل الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏ما من أحد يكلم في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك‏)‏‏.‏ فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الدم بحاله وعليه رائحة المسك، ولم تخرجه الرائحة عن صفة الدموية‏.‏ ولذلك قال علماؤنا‏:‏ إذا تغير الماء بريح جيفة على طرفه وساحله لم يمنع ذلك الوضوء منه‏.‏ ولو تغير بها وقد وضعت فيه لكان ذلك تنجيسا له للمخالطة والأول مجاورة لا تعويل عليها‏.‏

قلت‏:‏ وقد استدل به أيضا على نقيض ذلك، وهو أن تغير الرائحة يخرجه عن أصله‏.‏ ووجه هذا الاستدلال أن الدم لما استحالت رائحته إلى رائحة المسك خرج عن كونه مستخبثا نجسا، وأنه صار مسكا؛ وإن المسك بعض دم الغزال‏.‏ فكذلك الماء إذا تغيرت رائحته‏.‏ وإلى هذا التأويل ذهب الجمهور في الماء‏.‏ وإلى الأول ذهب عبدالملك‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ جعلوا الحكم للرائحة دون اللون، فكان الحكم لها فاستدلوا عليها في زعمهم بهذا الحديث‏.‏ وهذا لا يفهم منه معنى تسكن إليه النفس، ولا في الدم معنى الماء فيقاس عليه، ولا يشتغل بمثل هذا الفقهاء، وليس من شأن أهل العلم اللغز به وإشكاله؛ وإنما شأنهم إيضاحه وبيانه، ولذلك أخذ الميثاق عليهم ليبيننه‏.‏ للناس ولا يكتمونه، والماء لا يخلو تغيره بنجاسة أو بغير نجاسة، فإن كان بنجاسة وتغير فقد أجمع العلماء على أنه غير طاهر ولا مطهر، وكذلك أجمعوا أنه إذا تغير بغير نجاسة أنه طاهر على أصله‏.‏ وقال الجمهور‏.‏ إنه غير مطهر إلا أن يكون تغيره من تربة ومأة‏.‏ وما أجمعوا عليه فهو الحق الذي لا إشكال فيه، ولا التباس معه‏.‏

الماء المتغير بقراره كزرنيخ أو جير يجري عليه، أو تغير بطحلب أو ورق شجر ينبت عليه لا يمكن الاحتراز عنه فاتفق العلماء أن ذلك لا يمنع من الوضوء به، لعدم الاحتراز منه والانفكاك عنه؛ وقد روى ابن وهب عن مالك أن غيره أولى منه‏.‏

قال علماؤنا رحمة الله عليهم‏:‏ ويكره سؤر النصراني وسائر الكفار والمدمن الخمر، وما أكل الجيف؛ كالكلاب وغيرها‏.‏ ومن توضأ بسؤرهم فلا شيء عليه حتى يستيقن النجاسة‏.‏ قال البخاري‏:‏ وتوضأ عمر رضي الله عنه من بيت نصرانية‏.‏ ذكر سفيان بن عيينة قال‏:‏ حدثونا عن زيد بن أسلم عن أبيه قال‏:‏ لما كنا بالشام أتيت عمر بن الخطاب بماء فتوضأ منه فقال‏:‏ من أين جئت بهذا الماء‏؟‏ ما رأيت ماء عذبا ولا ماء سماء أطيب منه‏.‏ قال قلت‏:‏ جئت به من بيت هذه العجوز النصرانية؛ فلما توضأ أتاها فقال‏:‏ ‏(‏أيتها العجوز أسلمي تسلمي، بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق‏.‏ قال‏:‏ فكشفت عن رأسها؛ فإذا مثل الثغامة، فقالت‏:‏ عجوز كبيرة، وإنما أموت الآن‏!‏ فقال عمر رضى الله عنه‏:‏ اللهم اشهد‏)‏‏.‏ خرجه الدارقطني، حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا أحمد بن إبراهيم البوشنجي قال حدثنا سفيان‏.‏‏.‏ فذكره‏.‏ ورواه أيضا عن الحسين بن إسماعيل قال حدثنا خلاد بن أسلم حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه توضأ من بيت نصرانية أتاها فقال‏:‏ أيتها العجوز أسلمي‏.‏‏.‏ ؛ وذكر الحديث بمثل ما تقدم‏.‏

فأما الكلب إذا ولغ في الماء فقال مالك‏:‏ يغسل الإناء سبعا ولا يتوضأ منه وهو طاهر‏.‏ وقال الثوري‏:‏ يتوضأ بذلك الماء ويتمم معه‏.‏ وهو قول عبدالملك بن عبدالعزيز ومحمد بن مسلمة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ الكلب نجس ويغسل الإناء منه لأنه نجس‏.‏ وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق‏.‏ وقد كان مالك يفرق بين ما يجوز اتخاذه من الكلاب وبين ما لا يجوز اتخاذه منها في غسل الإناء من ولوغه‏.‏ وتحصيل مذهبه أنه طاهر عنده لا ينجس ولوغه شيئا ولغ فيه طعاما ولا غيره؛ إلا أنه استحب هراقة ما ولغ فيه من الماء ليسارة مؤنته‏.‏ وكلب البادية والحاضرة سواء‏.‏ ويغسل الإناء منه على كل حال سبعا تعبدا‏.‏ هذا ما استقر عليه مذهبه عند المناظرين من أصحابه‏.‏ ذكر ابن وهب وقال‏:‏ حدثنا عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء عن أبي هريرة قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي تكون فيما بين مكة والمدينة، فقيل له‏:‏ إن الكلاب والسباع ترد عليها‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور‏)‏ أخرجه الدارقطني‏.‏ وهذا نص في طهارة الكلاب وطهارة ما تلغ فيه‏.‏ وفي البخاري عن ابن عمر أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يرشون شيئا من ذلك‏.‏ وقال عمر بحضرة الصحابة لصاحب الحوض الذي سأله عمرو بن العاص‏:‏ هل ترد حوضك السباع‏.‏ فقال عمر‏:‏ يا صاحب الحوض، لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا‏.‏ أخرجه مالك والدارقطني‏.‏ ولم يفرق بين السباع، والكلب من جملتها، ولا حجة للمخالف في الأمر بإراقة ما ولغ فيه وأن ذلك للنجاسة، وإنما أمر بإراقته لأن النفس تعافه لا لنجاسته؛ لأن التنزه من الأقذار مندوب إليه، أو تغليظا عليهم لأنهم نهوا عن اقتنائها كما قال ابن عمر والحسن؛ فلما لم ينتهوا عن ذلك غلظ عليهم في الماء لقلته عندهم في البادية، حتى يشتد عليهم فيمتنعوا من اقتنائها‏.‏ وأما الأمر بغسل الإناء فعبادة لا لنجاسته كما ذكرناه بدليلين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الغسل قد دخله العدد‏.‏ الثاني‏:‏ أنه جعل للتراب فيه مدخل لقول عليه السلام‏:‏ ‏(‏وعفروه الثامنة بالتراب‏)‏‏.‏ ولو كان للنجاسة لما كان للعدد ولا للتراب في مدخل كالبول‏.‏ وقد جعل صلى الله عليه وسلم الهر وما ولغ فيه طاهرا، والهر سبع لا خلاف في ذلك؛ لأنه يفترس ويأكل الميتة؛ فكذلك الكلب وما كان مثله من السباع؛ لأنه إذا جاء نص ذلك في أحدهما كان نصا في الآخر‏.‏ وهذا من أقوى أنواع القياس‏.‏ هذا لو لم يكن هناك دليل؛ وقد ذكرنا النص على طهارته فسقط قول المخالف‏.‏ والحمد لله‏.‏

ما مات في الماء مما لا دم له فلا يضر الماء إن لم يغير ريحه؛ فإن أنتن لم يتوضأ به‏.‏ وكذلك ما كان ل دم سائل من دواب الماء كالحوت والضفدع لم يفسد ذلك الماء موته فيه؛ إلا أن تتغير رائحته، فإن تغيرت رائحته وأنتن لم يجز التطهر به ولا الوضوء منه، وليس بنجس عند مالك‏.‏ وأما ما له نفس سائلة فمات في الماء ونزح مكانه ولم يغير لونه ولا طعمه ولا ريحه فهو طاهر مطهر سواء كان الماء قليلا أو كثيرا عند المدنيين‏.‏ واستحب بعضهم‏.‏ أن ينزح من ذلك الماء دلاء لتطيب النفس به، ولا يحدون في ذلك حدا لا يتعدى‏.‏ ويكرهون استعمال ذلك الماء قبل نزح الدلاء، فإن استعمله أحد في غسل أو وضوء جاز إذا كانت حاله ما وصفنا‏.‏ وقد كان بعض أصحاب مالك يرى لمن توضأ بهذا الماء وإن لم يتغير أن يتيمم، فيجمع بين الطهارتين احتياطا، فإن لم يفعل وصلى بذلك الماء أجزأه‏.‏ و‏"‏روى الدارقطني عن محمد بن سيرين‏"‏ أن زنجيا وقع في زمزم - يعني فمات - فأمر به ابن عباس رضي الله عنه فأخرج فأمر بها أن تنزح‏.‏ قال‏:‏ فغلبتهم عين جاءتهم من الركن فأمر بها فدسمت بالقباطي والمطارف حتى نزحوها، فلما نزحوها انفجرت عليهم‏.‏ وأخرجه عن أبي الطفيل أن غلاما وقع في بئر زمزم فنزحت‏.‏ وهذا يحتمل أن يكون الماء تغير، والله أعلم‏.‏ و روى‏.‏ شعبة عن مغيرة عن إبراهيم أنه كان يقول‏:‏ كل نفس سائلة لا يتوضأ منها، ولكن رخص في الخنفساء والعقرب والجراد والجدجد إذا وقعن في الركاء فلا بأس به‏.‏ قال شعبة‏:‏ وأظنه قد ذكر الوزغة‏.‏ أخرجه الدارقطني، حدثنا الحسين بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن الوليد قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة‏.‏‏.‏‏.‏؛ فذكره‏.‏

ذهب الجمهور من الصحابة وفقهاء الأمصار وسائر التابعين بالحجاز والعراق أن ما ولغ فيه الهر من الماء طاهر، وأنه لا بأس بالوضوء بسؤره؛ لحديث أبي قتادة، أخرجه مالك وغيره‏.‏ وقد روي عن أبي هريرة فيه خلاف‏.‏ وروي عن عطاء بن أبي رباج وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين أنهم أمروا بإراقة ماء ولغ فيه الهر وغسل الإناء منه‏.‏ واختلف في ذلك عن الحسن‏.‏ ويحتمل أن كون الحسن رأى في فمه نجاسة ليصح مخرج الروايتين عنه‏.‏ قال الترمذي لما ذكر حديث مالك‏}‏وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة، هذا حديث حسن صحيح، وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم؛ مثل الشافعي وأحمد وإسحاق، لم يروا بسؤر الهرة بأسا ‏.‏ وهذا أحسن شيء في الباب، وقد جود مالك هذا الحديث عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة، ولم يأت به أحد أتم من مالك‏.‏ قال الحافظ أبو عمر‏:‏ الحجة عند التنازع والاختلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صح من حديث أبي قتادة أنه أصغى لها الإناء حتى شربت‏.‏ الحديث‏.‏ وعليه اعتماد الفقهاء في كل مصر إلا أبا حنيفة ومن قال بقول؛ فإنه كان يكره سؤره‏.‏ وقال‏:‏ إن توضأ به أحد أجزأه، ولا أعلم حجة لمن كره الوضوء بسؤر الهرة أحسن من أنه لم يبلغه حديث أبي قتادة، وبلغه حديث أبي هريرة في الكلب فقاس الهر عليه، وقد فرقت السنة بينهما في باب التعبد في غسل الإناء، ومن حجته السنة خاصمته، وما خالفها مطرح‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏ ومن حجتهم أيضا ما رواه قرة بن خالد عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين‏)‏ شك قرة‏.‏ وهذا الحديث لم يرفعه إلا قرة بن خالد، وقرة ثقة ثبت‏.‏ قلت‏:‏ هذا الحديث‏"‏ أخرجه الدارقطني‏"‏، ومتنه‏:‏ ‏(‏ طهور الإناء إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبع مرات الأولى بالتراب والهر مرة أو مرتين‏)‏‏.‏ قرة شك‏.‏ قال أبو بكر‏:‏ كذا رواه أبو عاصم مرفوعا، ورواه غيره عن قرة ‏(‏ولوغ الكلب‏)‏ مرفعا و‏(‏ولوغ الهر‏)‏ موقوفا‏.‏ و روى أبو صالح عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يغسل الإناء من الهر كما يغسل من الكلب‏)‏ قال الدارقطني‏:‏ لا يثبت هذا مرفوعا والمحفوظ من قول أبي هريرة واختلف عنه‏.‏ وذكر معمر وابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أنه كان يجعل الهر مثل الكلب‏.‏ وعن مجاهد أنه قال في الإناء يلغ فيه السنور قال‏:‏ اغسله سبع مرات‏.‏ قال الدارقطني‏.‏

الماء المستعمل طاهر إذا كانت أعضاء المتوضئ به طاهرة؛ إلا أن مالكا وجماعة من الفقهاء الجلة كانوا يكرهون الوضوء به‏.‏ وقال مالك‏:‏ لا خير فيه، ولا أحب لأحد أن يتوضأ به، فإن فعل وصلى لم أر عليه إعادة الصلاة ويتوضأ لما يستقبل‏.‏ وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما‏:‏ لا يجوز استعماله في رفع الحدث، ومن توضأ به أعاد؛ لأنه ليس بماء مطلق؛ ويتيمم واجده لأنه ليس بواجد ماء‏.‏ وقال بقولهم في ذلك اصبغ بن الفرج، وهو قول الأوزاعي‏.‏ واحتجوا بحديث الصنابحي خرجه مالك وحديث عمرو بن عنبسة أخرجه مسلم، وغير ذلك من الآثار‏.‏ وقالوا‏:‏ الماء إذا توضئ به خرجت الخطايا معه؛ فوجب التنزه عنه لأنه ماء الذنوب‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وهذا عندي لا وجه له؛ لأن الذنوب لا تنجس الماء لأنها لا أشخاص لها ولا أجسام تمازج الماء فتفسده، وإنما معنى قوله خرجت الخطايا مع الماء إعلام منه بأن الوضوء للصلاة عمل يكفر الله به السيئات عن عباده المؤمنين رحمة منه بهم وتفضلا عليهم‏.‏ وقال أبو ثور وداود مثل قول مالك، وأن الوضوء بالماء المستعمل جائز؛ لأنه ماء طاهر لا ينضاف إليه شيء وهو ماء مطلق‏.‏ واحتجوا بإجماع الأمة على طهارته إذا لم يكن في أعضاء المتوضئ نجاسة‏.‏ وإلى هذا ذهب أبو عبدالله المروزي محمد بن نصر‏.‏ وروي عن علي بن أبى طالب وابن عمر وأبي أمامة وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري والنخعي ومكحول والزهري أنهم قالوا فيمن نسي مسح رأسه فوجد في لحيته بللا‏:‏ إنه يجزئه أن يمسح بذلك البلل رأسه؛ فهؤلاء كلهم أجازوا الوضوء بالماء المستعمل‏.‏ روي عبدالسلام بن صالح حدثنا إسحاق بن سويد عن العلاء بن زياد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرضي ‏(‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم ذات يوم وقد اغتسل وقد بقيت لمعة من جسده لم يصبها الماء، فقلنا‏:‏ يا رسول الله، هذه لمعة لم يصبها الماء؛ فكان له شعر وارد، فقال بشعره هكذا على المكان فبله‏)‏‏.‏ ‏"‏أخرجه الدارقطني‏"‏، وقال‏:‏ عبدالسلام بن صالح هذا بصري وليس بقوي وغيره من الثقات يرويه عن إسحاق عن العلاء مرسلا، وهو الصواب‏.‏

قلت‏:‏ الراوي الثقة عن إسحاق بن سويد العدوي عن العلاء بن زياد العدوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل‏.‏‏.‏‏.‏؛ الحديث فيما ذكره هشيم‏.‏ قال ابن العربي‏}‏مسألة الماء المستعمل إنما تنبني على أصل آخر، وهو أن الآلة إذا أدي بها فرض هل يؤدى بها فرض آخر أم لا؛ فمنع ذلك المخالف قياسا على الرقبة إذا أدى بها فرض عتق لم يصلح أن يتكرر في أداء فرض آخر؛ وهذا باطل من القول، فإن العتق إذا أتى على الرق أتلفه فلا يبقى محل لأداء الفرض بعتق آخر‏.‏ ونظيره من الماء ما تلف على الأعضاء فإنه لا يصح أن يؤدى به فرض آخر لتلف عينه حسا كما تلف الرق في الرقبة بالعتق حكما، وهذا نفيس فتأملوه ‏.‏

لم يفرق مالك وأصحابه بين الماء تقع فيه النجاسة وبين النجاسة يرد عليه الماء، راكدا كان الماء أو غير راكد؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه فغير طعمه أو لونه أو ريحه‏)‏‏.‏ وفرقت الشافعية فقالوا‏:‏ إذا وردت النجاسة‏:‏ على الماء تنجس؛ واختاره ابن العربي‏.‏ وقال‏:‏ من أصول الشريعة في أحكام الماء أن ورود النجاسة على الماء ليس كورود الماء على النجاسة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده‏)‏‏.‏ فمنع من ورود اليد على الماء وأمر بإيراد الماء عليها، وهذا أصل بديع في الباب، ولولا وروده على النجاسة - قليلا كان أو كثيرا - لما طهرت‏.‏ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في بول الأعرابي في المسجد‏:‏ ‏(‏صبوا عليه ذنوبا من ماء‏)‏‏.‏ قال شيخنا أبو العباس‏:‏ واستدلوا أيضا بحديث القلتين، فقالوا‏:‏ إذا كان الماء دون القلتين فحلته نجاسة تنجس وإن لم تغيره، وإن ورد ذلك القدر فأقل على النجاسة فأذهب عينها بقي الماء على طهارته وأزال النجاسة‏.‏ وهذه مناقضة، إذ المخالطة قد حصلت في الصورتين، وتفريقهم بورود الماء على النجاسة وورودها عليه فرق صوري ليس فيه من الفقه شيء، فليس الباب باب التعبدات بل من باب عقلية المعاني، فإنه من باب إزالة النجاسة وأحكامها‏.‏ ثم هذا كله منهم يرده قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه ‏)‏

قلت‏:‏ هذا الحديث ‏"‏أخرجه الدارقطني ‏"‏عن رشدين بن سعد أبي الحجاج عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي أمامة الباهلي وعن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه ذكر اللون‏.‏ وقال‏:‏ لم يرفعه غير رشدين بن سعد عن معاوية بن صالح وليس بالقوي، وأحسن منه في الاستدلال ما رواه أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن كعب عن عبيدالله بن عبدالله بن رافع بن خديج عن أبي سعيد الخدري قال قيل‏:‏ يا رسول الله، أنتوضأ من بئر بضاعة‏؟‏ وهي بئر تلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الماء طهور لا ينجسه شيء‏)‏‏"‏ أخرجه أبو داود والترمذي والدارقطني ‏"‏كلهم بهذا الإسناد‏.‏ وقال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن، وقد جود أبو أسامة‏.‏ هذا الحديث ولم يرو أحد حديث أبى سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة‏.‏ فهذا الحديث نصي في ورود النجاسة على الماء، وقد حكم صلى الله عليه وسلم بطهارته وطهوره‏.‏ قال ‏"‏أبو داود‏"‏‏:‏ سمعت قتيبة بن سعيد قال‏:‏ سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها؛ قلت‏:‏ أكثر ما يكون الماء فيها‏؟‏ قال‏:‏ إلى العانة‏.‏ قلت‏:‏ فإذا نقص‏؟‏ قال‏:‏ دون العورة‏.‏ قال أبو داود‏:‏ وقدرت بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه‏:‏ هل غير بناؤها عما كانت عليه‏؟‏ فقال لا‏.‏ ورأيت فيها ماء متغير اللون‏.‏ فكان هذا دليلا لنا على ما ذكرناه، غير أن ابن العربي قال‏:‏ إنها في وسط السبخة، فماؤها متغيرا من قرارها؛ والله أعلم‏.‏

الماء الطاهر المطهر الذي يجوز به الوضوء وغسل النجاسات هو الماء القراح الصافي من ماء السماء والأنهار والبحار والعيون والآبار، وما عرفه الناس ماء مطلقا غير مضاف إلى شيء خالطه كما خلقه الله عز وجل صافيا ولا يضره لون أرضه على ما بيناه‏.‏ وخالف في هذه الجملة‏.‏ أبو حنيفة وعبدالله بن عمرو وعبدالله بن عمر فأما أبو حنيفة فأجاز الوضوء بالنبيذ في السفر، وجوز إزالة النجاسة بكل مائع طاهر‏.‏ فأما بالدهن والمرق فعنه رواية أنه لا يجوز إزالتها به‏.‏ إلا أن أصحابه يقولون‏:‏ إذا زالت النجاسة به جاز‏.‏ وكذلك عنده النار والشمس؛ حتى أن جلد الميتة إذا جف في الشمس طهر من غير دباغ‏.‏ وكذلك النجاسة على الأرض إذا جفت بالشمس فإنه يطهر ذلك الموضع، بحيث تجوز الصلاة عليه، ولكن لا يجوز التيمم بذلك التراب‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ لما وصف الله سبحانه الماء بأنه طهور وامتن بإنزاله من السماء ليطهرنا به دل على اختصاصه بذلك؛ وكذلك قال عليه الصلاة والسلام لأسماء بنت الصديق حين سألته عن دم الحيض يصيب الثوب‏:‏ ‏(‏حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء‏)‏‏.‏ فلذلك لم يلحق غير الماء بالماء لما في ذلك من إبطال الامتنان، وليست النجاسة معنى محسوسا حتى يقال كل ما أزالها فقد قام به الغرض، وإنما النجاسة حكم شرعي عين له صاحب الشرع الماء فلا يلحق به غيره؛ إذ ليس في معناه، ولأنه لو لحق به لأسقطه، والفرع إذا عاد إلحاقه بالأصل في إسقاطه سقط في نفسه‏.‏ وقد كان تاج السنة ذو العز بن المرتضى الدبوسي يسميه فرخ زنى‏.‏

قلت‏:‏ وأما ما استدل به على استعمال النبيذ فأحاديث واهية، ضعاف لا يقوم شيء منها على‏.‏ ساق؛ ذكرها الدارقطني وضعفها ونص عليها‏.‏ وكذلك ضعف ما روي عن ابن عباس موقوفا ‏(‏النبيذ وضوء لمن لم يجد الماء‏)‏‏.‏ في طريقه ابن محرز متروك الحديث‏.‏ وكذلك ما روي عن علي أنه قال‏:‏ لا بأس بالوضوء بالنبيذ‏.‏ الحجاج وأبو ليلى ضعيفان‏.‏ وضعف حديث ابن مسعود وقال‏:‏ تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف الحديث‏.‏ وذكر عن علقمة بن قيس قال‏:‏ قلت لعبدالله بن مسعود‏:‏ أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعي الجن‏؟‏ فقال لا‏.‏

قلت‏:‏ هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة رواته‏.‏ وأخرج الترمذي حديث ابن مسعود قال‏:‏ سألني النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما في إداوتك‏)‏ فقلت‏:‏ نبيذ‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏ثمرة طيبة وماء طهور‏)‏ قال‏:‏ فتوضأ منه‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ وإنما روي هذا الحديث، عن أبي زيد عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث لا نعرف له رواية‏.‏ غير هذا الحديث، وقد رأى بعض أهل العلم الوضوء بالنبيذ، منهم سفيان وغيره، وقال بعض أهل العلم‏:‏ لا يتوضأ بالنبيذ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، وقال إسحاق‏:‏ إن ابتلي رجل بهذا فتوضأ بالنبيذ وتيمم أحب إلي‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ وقول من يقول لا يتوضأ بالنبيذ أقرب إلى الكتاب والسنة وأشبه؛ لأن الله تعالىقال ‏{‏فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا‏}‏ ‏.‏ وهذه المسألة مطولة في كتب الخلاف؛ وعمدتهم التمسك بلفظ الماء حسبما تقدم في المائدة بيانه والله أعلم‏.‏

لما قال الله ‏{‏وأنزلنا من السماء ماء طهورا‏}‏وقال ‏{‏ليطهركم به‏}‏ توقف جماعة في ماء البحر؛ لأنه ليس بمنزل من السماء؛ حتى رووا عن عبدالله بن عمر وابن عمرو معا أنه لا يتوضأ به؛ لأنه نار ولأنه طبق جهنم‏.‏ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بين حكمه حين قال لن سأله‏:‏ ‏(‏هو الطهور ماؤه الجل ميتته‏)‏ ‏"‏أخرجه مالك‏"‏‏.‏ وقال فيه أبو عيسى‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وهو قول أكثر الفقهاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم أبو بكر وعمر وابن عباس، لم يروا بأسا بماء البحر، وقد كره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء بماء البحر؛ منهم ابن عمر وعبدالله بن عمرو، وقال عبدالله بن عمرو‏:‏ هو نار‏.‏ قال أبو عمر؛ وقد سئل أبو عيسى الترمذي عن حديث مالك هذا عن صفوان بن سليم فقال‏:‏ هو عندي حديث صحيح‏.‏ قال أبو عيسى فقلت للبخاري‏:‏ هشيم يقول فيه أبي ابن برزة‏.‏ فقال‏:‏ وهم فيه، إنما هو المغيرة بن أبي بردة‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ لا أدري ما هذا من البخاري رحمه الله، ولو كان صحيحا لأخرجه في مصنفه الصحيح عنده، ولم يفعل لأنه لا يعول في الصحيح إلا على الإسناد‏.‏ وهذا الحديث لا يحتج أهل الحديث بمثل إسناده، وهو عندي صحيح لأن العلماء تلقوه بالقبول له والعمل به، ولا يخالف في جملته أحد من الفقهاء، وإنما الخلاف بينهم في بعض معانيه‏.‏ وقد أجمع جمهور من العلماء وجماعة أئمة الفتوى بالأمصار من الفقهاء‏:‏ أن البحر طهور ماؤه، وأن الوضوء به جائز؛ إلا ما روي عن عبدالله بن عمر بن الخطاب وعبدالله بن عمرو بن العاص أنهما كرها الوضوء بماء البحر، ولم يتابعهما أحد من فقهاء الأمصار على ذلك ولا عرج عليه، ولا التفت إليه لحديث هذا الباب‏.‏ وهذا يدلك على اشتهار الحديث عندهم، وعملهم به وقبولهم له، وهو أولى عندهم من الإسناد الظاهر الصحة لمعنى ترده الأصول‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

قال أبو عمر‏:‏ وصفوان بن سليم مولى حميد بن عبدالرحمن بن عوف الزهري، من عباد أهل المدينة وأتقاهم لله، ناسكا، كثير الصدقة بما وجد من قليل وكثير، كثير العمل، خائفا لله، يكنى أبا عبدالله، سكن المدينة لم ينتقل عنها، ومات بها سنة اثنتين وثلاثين ومائة‏.‏ ذكر عبدالله بن أحمد بن حنبل قال‏:‏ سمعت أبي يسأل عن صفوان بن سليم فقال‏:‏ ثقة من خيار عباد الله وفضلاء المسلمين‏.‏ وأما سعيد بن سلمة‏.‏ فلم يرو عنه فيما علمت إلا صفوان - والله أعلم - ومن كانت هذه حاله فهو مجهول لا تقوم به حجة عند جميعهم‏.‏ وأما المغيرة بن أبي بردة فقيل عنه إنه غير معروف في حملة العلم كسعيد بن سلمة‏.‏ وقيل‏:‏ ليس بمجهول‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ المغيرة بن أبي بردة وجدت ذكره في مغازي موسى بن نصير بالمغرب، وكان موسى يستعمله على الخيل، وفتح الله له في بلاد البربر فتوحات في البر والبحر‏.‏ و‏"‏روى الدارقطني من غير طريق مالك‏"‏ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من لم يطهره ماء البحر فلا طهره الله‏)‏‏.‏ قال إسناده حسن‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ توهم قوم أن الماء إذا فضلت للجنب منه فضله لا يتوضأ به، وهو مذهب باطل، فقد ثبت عن ميمونة أنها قالت‏:‏ أجنبت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلت من جفنة وفضلت فضلة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليغتسل منه فقلت‏:‏ إني قد اغتسلت منه‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏إن الماء ليس عليه نجاسة - أو - إن الماء لا يجنب‏)‏‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وردت آثار في هذا الباب مرفوعة في النهي عن أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة‏.‏ وزاد بعضهم في بعضها‏:‏ ولكن ليغترفا جميعا‏.‏ فقالت طائفة‏:‏ لا يجوز أن يغترف الرجل مع المرأة في إناء واحد؛ لأن كل واحد منهما متوضئ بفضل صاحبه‏.‏ وقال آخرون‏:‏ إنما كره من ذلك أن تنفرد المرأة بالإناء ثم يتوضأ الرجل بعدها بفضلها‏.‏ وكل واحد منهم روى بما ذهب إليه أثرا‏.‏ والذي ذهب إليه الجمهور من العلماء وجماعة فقهاء الأمصار أنه لا بأس أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة وتتوضأ المرأة من فضله، انفردت المرأة بالإناء أو لم تنفرد‏.‏ وفي مثل هذا آثار كثيرة صحاح‏.‏ والذي نذهب إليه أن الماء لا ينجسه شيء إلا ما ظهر فيه من النجاسات أو غلب عليه منها؛ فلا وجه للاشتغال بما لا يصح من الآثار والأقوال‏.‏ والله المستعان‏.‏

‏"‏روى الترمذي عن ابن عباس‏"‏ قال‏:‏ حدثتني ميمونة قالت‏:‏ كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة‏.‏ قال هذا حديث حسن صحيح‏.‏ و‏"‏روى البخاري عن عائشة‏"‏ قالت‏:‏ كنت اغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد يقال له الفرق‏.‏ وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة‏.‏ و‏"‏روى الترمذي عن ابن عباس‏"‏ قال‏:‏ اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، في جفنة فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ منه فقالت‏:‏ يا رسول الله، إني كنت جنبا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏إن الماء لا يجنب‏)‏‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح، وهو قول سفيان الثوري ومالك والشافعي‏.‏ و‏"‏روى الدارقطني عن عمرة‏"‏ عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كنت أتوضأ أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد وقد أصابت الهرة منه قبل ذلك‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وروي أيضا عن رجل من بني غفار قال‏:‏ ‏(‏نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فضل طهور المرأة‏)‏‏.‏ وفي الباب عن عبدالله بن سرجس، وكره بعض الفقهاء فضل طهور المرأة، وهو قول أحمد وإسحاق‏.‏

‏"‏روى الدارقطني عن زيد بن أسلم‏"‏ مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب كان يسخن له الماء في قمقمة ويغتسل به‏.‏ قال‏:‏ وهذا إسناد صحيح‏.‏ وروي عن عائشة قالت‏:‏ دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سخنت ماء في الشمس‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص‏)‏‏.‏ رواه خالد بن إسماعيل المخزومي، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وهو متروك‏.‏ ورواه عمرو بن محمد الأعشم عن فليح عن الزهري عن عروة عن عائشة‏.‏ وهو منكر الحديث، ولم يروه غيره عن فليح، ولا يصح عن الزهري؛ ‏"‏قاله الدارقطني‏"‏‏.‏

كل إناء طاهر فجائز الوضوء منه إلا إناء الذهب والفضة؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذهما‏.‏ وذلك - والله أعلم - للتشبه بالأعاجم والجبابرة لا لنجاسة فيهما‏.‏ ومن توضأ فيهما أجزاه وضوءه وكان عاصيا باستعمالهما‏.‏ وقد قيل‏:‏ لا يجزئ الوضوء في أحدهما‏.‏ والأول أكثر؛ قال أبو عمر‏.‏ وكل جلد ذكي فجائز استعماله للوضوء وغير ذلك‏.‏ وكان مالك يكره الوضوء في إناء جلد الميتة بعد الدباغ؛ على اختلاف من قوله‏.‏ وقد تقدم في النحل

 الآية رقم ‏(‏ 49 ‏)‏

‏{‏ لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ‏}‏

قوله ‏{‏لنحيي به‏}‏أي بالمطر‏.‏ ‏{‏بلدة ميتا‏}‏بالجدوبة والمحل وعدم النبات‏.‏ قال كعب‏:‏ المطر روح الأرض يحييها الله به‏.‏ وقال ‏{‏ميتا‏}‏ولم يقل ميتة لأن معنى البلدة والبلد واحد؛ قاله الزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالبلد المكان‏.‏ ‏{‏ونسقيه‏}‏قراءة العامة بضم النون‏.‏ وقرأ عمر بن الخطاب وعاصم والأعمش فيما روى المفضل عنهما ‏{‏نسقيه‏}‏بفتح النون‏.‏ ‏{‏مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا‏}‏أي بشرا كثيرا وأناسي واحده إنسي نحو جمع القرقور قراقير وقراقر في قول الأخفش والمبرد وأحد قولي الفراء؛ وله قول آخر وهو أن يكون واحده إنسانا ثم تبدل من النون ياء؛ فتقول‏:‏ أناسي، والأصل أناسين، مثل سرحان وسراحين، وبستان وبساتين؛ فجعلوا الياء عوضا من النون، وعلى هذا يجوز سراحي وبساتي، لا فرق بينهما‏.‏ قال الفراء‏:‏ ويجوز ‏{‏أناسي‏}‏بتخفيف الياء التي فيما بين لام الفعل وعينه؛ مثل قراقير وقراقر‏.‏ وقال ‏{‏كثيرا‏}‏ولم يقل كثيرين؛ لأن فعيلا قد يراد به الكثرة؛ نحو ‏{‏وحسن أولئك رفيقا‏}‏ ‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 50 ‏)‏

‏{‏ ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ‏}‏

قوله ‏{‏ولقد صرفناه بينهم‏}‏يعني القرآن، وقد جرى ذكره في أول السورة‏:‏ قوله ‏{‏تبارك الذي نزل الفرقان‏}‏ ‏.‏ وقوله ‏{‏لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني‏}‏ وقوله ‏{‏اتخذوا هذا القرآن مهجورا‏}‏‏.‏ ‏{‏ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا‏}‏أي جحودا له وتكذيبا به‏.‏ وقيل ‏{‏ولقد صرفناه بينهم‏}‏هو المطر‏.‏ روي عن ابن عباس وابن مسعود‏:‏ وأنه ليس عام بأكثر مطرا من عام ولكن الله يصرفه حيث يشاء، فما زيد لبعض نقص من غيرهم‏.‏ فهذا معنى التصريف‏.‏ وقيل ‏{‏صرفناه بينهم‏}‏وابلا وطشا وطلا ورهاما - الجوهري‏:‏ الرهام الأمطار اللينة - ورذاذا‏.‏ وقيل‏:‏ تصريفه تنويع الانتفاع به في الشرب والسقي والزراعات به والطهارات وسقي البساتين والغسل وشبهه‏.‏ ‏{‏ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا‏}‏قال عكرمة‏:‏ هو قولهم في الأنواء‏:‏ مطرنا بنوء كذا‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولا نعلم بين أهل التفسير اختلافا أن الكفر ها هنا قولهم مطرنا بنوء كذا وكذا؛ وأن نظيره فعل النجم كذا، وأن كل من نسب إليه فعلا فهو كافر‏.‏ و روى الربيع بن صبيح قال‏:‏ مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فلما أصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أصبح الناس فيها رجلين شاكر وكافر فأما الشاكر فيحمد الله تعالى على سقياه وغياثه وأما الكافر فيقول مطرنا بنوء كذا وكذا‏)‏‏.‏ وهذا متفق على صحته بمعناه وسيأتي في الواقعة إن شاء الله وروي من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي صرف الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ التصريف راجع إلى الريح، وقد ممضى في البقرة بيانه‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏}‏ليذكروا‏}‏مخففة الذال من الذكر‏.‏ الباقون مثقلا من التذكر‏؟‏ أي ليذكروا نعم الله ويعلموا أن من أنعم بها لا يجوز الإشراك به؛ فالتذكر قريب من الذكر غير أن التذكر يطلق فيما بعد عن القلب فيحتاج إلى تكلف في التذكر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 51 ‏:‏ 52 ‏)‏

‏{‏ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا، فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ‏}‏

قوله ‏{‏ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا‏}‏أي رسولا ينذرهم كما قسمنا‏.‏ المطر ليخف عليك أعباء النبوة، ولكنا لم نفعل بل جعلناك نذيرا للكل لترتفع درجتك فاشكر نعمة الله عليك‏.‏ ‏{‏فلا تطع الكافرين‏}‏أي فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم‏.‏ ‏{‏وجاهدهم به‏}‏قال ابن عباس بالقرآن‏.‏ ابن زيد‏:‏ بالإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ بالسيف؛ وهذا فيه بعد؛ لأن السورة مكية نزلت قبل الأمر بالقتال‏.‏ ‏{‏جهادا كبيرا‏}‏لا يخالطه فتور‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 53 ‏)‏

‏{‏وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا

قوله ‏{‏وهو الذي مرج البحرين‏}‏عاد الكلام إلى ذكر النعم‏.‏ و‏(‏مرج‏)‏ خلى وخلط وأرسل‏.‏ قال مجاهد‏:‏ أرسلهما وأفاض أحدهما في الآخر‏.‏ قال ابن عرفة‏}‏مرج البحرين‏}‏أي خلطهما فهما يلتقيان؛ يقال‏:‏ مرجته إذا خلطته‏.‏ ومرج الدين والأمر اختلط واضطرب؛ ومنه قوله ‏{‏في أمر مريج‏}‏ق ‏.‏ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لعبدالله بن عمرو بن العاصي‏:‏ ‏(‏إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا وهكذا‏)‏ وشبك بين أصابعه فقلت له‏:‏ كيف أصنع عند ذلك، جعلني الله فداك‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ بما تعرف ودع ما تنكر وعليك بخاصة أمر نفسك ودع عنك أمر العامة‏)‏ ‏"‏خرجه النسائي وأبو داود وغيرهما‏"‏‏.‏ وقال الأزهري‏}‏مرج البحرين‏}‏خلى بينهما؛ يقال مرجت الدابة إذا خليتها ترعى‏.‏ وقال ثعلب‏:‏ المرج الإجراء؛ فقوله ‏{‏مرج البحرين‏}‏أي أجراهما‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ يقول قوم أمرج البحرين مثل مرج فعل وأفعل‏.‏ ‏{‏هذا عذب فرات‏}‏أي حلو شديد العذوبة‏.‏ ‏{‏وهذا ملح أجاج‏}‏أي فيه ملوحة ومرارة‏.‏ وروي عن طلحة أنه قرئ‏}‏وهذا ملح‏}‏بفتح الميم وكسر اللام‏.‏ ‏{‏وجعل بينهما برزخا‏}‏أي حاجزا من قدرته لا يغلب أحدهما على صاحبه؛ كما قال في سورة الرحمن ‏{‏مرج البحرين يلتقيان‏.‏ بينهما برزخ لا يبغيان‏}‏ ‏:‏ 20 ‏.‏ ‏{‏وحجرا محجورا‏}‏أي سترا مستورا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر‏.‏ فالبرزخ الحاجز، والحجر المانع‏.‏ وقال الحسن‏:‏ يعني بحر فارس وبحر الروم‏.‏ وقال ابن عباس وابن جبير‏:‏ يعني بحر السماء وبحر الأرض‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يلتقيان في كل عام وبينهما برزخ قضاء من قضائه‏.‏ ‏{‏وحجرا محجورا‏}‏حراما محرما أن يعذب هذا الملح بالعذب، أو يصلح هذا العذب بالملح‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 54 ‏)‏

‏{‏ وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ‏}‏

قوله ‏{‏وهو الذي خلق من الماء بشرا‏}‏أي خلق من النطفة إنسانا‏.‏ ‏{‏فجعله‏}‏أي جعل الإنسان ‏{‏نسبا وصهرا‏}‏‏.‏ وقيل ‏{‏من الماء‏}‏إشارة إلى أصل الخلقة في أن كل حي مخلوق من الماء‏.‏ وفي هذه الآية تعديد النعمة على الناس في، إيجادهم بعد العدم، والتنبيه على العبرة في ذلك‏.‏

قوله ‏{‏فجعله نسبا وصهرا‏}‏النسب والصهر معنيان يعمان كل قربى تكون بين آدميين‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ النسب عبارة عن خلط الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع؛ فإن كان بمعصية كان خلقا مطلقا ولم يكن نسبا محققا، ولذلك لم يدخل تحت قوله ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم‏}‏ بنته من الزنى؛ لأنها ليست ببنت له في أصح القولين لعلمائنا وأصح القولين في الدين؛ وإذا لم يكن نسب شرعا فلا صهر شرعا فلا يحرم الزنى بنت أم ولا أم بنت، وما يحرم من الحلال لا يحرم من الحرام؛ لأن الله امتن بالنسب والصهر على عباده ورفع قدرهما، وعلق الأحكام في الحل والحرمة عليهما فلا يلحق الباطل بهما ولا يساويهما‏.‏

قلت‏:‏ اختلف الفقهاء في نكاح الرجل ابنته من زنى أو أخته أو بنت ابنه من زنى؛ فحرم ذلك قوم منهم ابن القاسم، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، وأجاز ذلك آخرون منهم عبدالملك بن الماجشون، وهو قول الشافعي، وقد مضى هذا في النساء مجودا‏.‏ قال الفراء‏:‏ النسب الذي لا يحل نكاحه، والصهر الذي يحل نكاحه‏.‏ وقاله الزجاج‏:‏ وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏.‏ واشتقاق الصهر من صهرت الشيء إذا خلطته؛ فكل واحد من الصهرين قد خالط صاحبه، فسميت المناكح صهرا لاختلاط الناس بها‏.‏ وقيل‏:‏ الصهر قرابة النكاح؛ فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج هم الأحماء‏.‏ والأصهار يقع عاما لذلك كله؛ قاله الأصمعي‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ الأختان أبو المرأة وأخوهما وعمها - كما قال الأصمعي - والصهر زوج ابنة الرجل وأخوه وأبوه وعمه‏.‏ وقال محمد بن الحسن في رواية أبي سليمان الجوزجاني‏:‏ أختان الرجل أزواج بناته وأخواته وعماته وخالاته، وكل ذات محرم منه، وأصهاره كل ذي رحم محرم من زوجته‏.‏ قال النحاس‏:‏ الأولى في هذا أن يكون القول في الأصهار ما قال الأصمعي، وأن يكون من قبلهما جميعا‏.‏ يقال‏:‏ صهرت الشيء أي خلطته؛ فكل واحد منهما قد خلط صاحبه‏.‏ والأولى في الأختان ما قال محمد بن الحسن لجهتين‏:‏ إحداهما الحديث المرفوع، ‏"‏روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبدالله بن قسيط‏"‏ عن محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما أنت يا علي فختني وأبو ولدي وأنت مني وأنا منك‏)‏‏.‏ فهذا على أن زوج البنت ختن‏.‏ والجهة الأخرى أن اشتقاق الختن من ختنه إذا قطعه؛ وكان الزوج قد انقطع عن أهله، وقطع زوجته عن أهلها‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الصهر قرابة الرضاع‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وذلك عندي وهم أوجبه أن ابن عباس قال‏:‏ حرم من النسب سبع، ومن الصهر خمس‏.‏ وفي رواية أخرى من الصهر سبع؛ يريد قوله عز وجل ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت‏}‏ فهذا هو النسب‏.‏ ثم يريد بالصهر قوله ‏{‏وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم‏}‏إلى قوله ‏{‏وأن تجمعوا بين الأختين‏}‏‏.‏ ثم ذكر المحصنات‏.‏ ومحمل هذا أن ابن عباس أراد حرم من الصهر ما ذكر معه، فقد أشار بما ذكر إلى عظمه وهو الصهر، لا أن الرضاع صهر، وإنما الرضاع عديل النسب يحرم منه ما يحرم من النسب بحكم الحديث المأثور فيه‏.‏ ومن روى وحرم من الصهر خمس أسقط من الآيتين الجمع بين الأختين والمحصنات؛ وهن ذوات الأزواج‏.‏

قلت‏:‏ فابن عطية جعل الرضاع مع ما تقدم نسبا، وهو قول الزجاج‏.‏ قال أبو إسحاق‏:‏ النسب الذي ليس بصهر من قوله جل ثناؤه‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ إلى قوله ‏{‏وأن تجمعوا بين الأختين‏}‏والصهر من له التزويج‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وحكى الزهراوي قولا أن النسب من جهة البنين والصهر من جهة البنات‏.‏

قلت‏:‏ وذكر هذا القول النحاس، وقال‏:‏ لأن المصاهرة من جهتين تكون‏.‏ وقال ابن سيرين‏:‏ نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه؛ لأنه جمعه معه نسب وصهر‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة‏.‏ ‏{‏وكان ربك قديرا‏}‏على خلق ما يريده‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 55 ‏)‏

‏{‏ ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا ‏}‏

قوله ‏{‏ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم‏}‏لما عدد النعم وبين كمال قدرته عجب من المشركين في إشراكهم به من لا يقدر على نفع ولا ضر؛ أي إن الله هو الذي خلق ما ذكره، ثم هؤلاء لجهلهم يعبدون من دونه أمواتا جمادات لا تنفع ولا تضر‏.‏ ‏{‏وكان الكافر على ربه ظهيرا‏}‏روي عن ابن عباس ‏{‏الكافر‏}‏هنا أبو جهل لعنه الله؛ وشرحه أنه يستظهر بعبادة الأوثان على أوليائه‏.‏ وقال عكرمة‏}‏الكافر‏}‏إبليس، ظهر على عداوة ربه‏.‏ وقال مطرف‏}‏الكافر‏}‏هنا الشيطان‏.‏ وقال الحسن‏}‏ظهيرا‏}‏أي معينا للشيطان على المعاصي‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى؛ وكان الكافر على ربه هينا ذليلا لا قدر له ولا وزن عنده؛ من قول العرب‏:‏ ظهرت به أي جعلته خلف ظهرك ولم تلتفت إليه‏.‏ ومنه قوله ‏{‏واتخذتموه وراءكم ظهريا‏}‏ أي هينا‏.‏ ومنه قول الفرزدق‏:‏

تميم بن قيس لا تكونن حاجتي بظهر فلا يعيا علي جوابها

هذا معنى قول أبي عبيدة‏.‏ وظهير بمعنى مظهور‏.‏ أي كفر الكافرين هين على الله تعالى، والله مستهين به لأن كفره لا يضره‏.‏ وقيل‏:‏ وكان الكافر على ربه الذي يعبده وهو الصنم قويا غالبا يعمل به ما يشاء؛ لأن الجماد لا قدرة له على دفع ضر ونفع‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 56 ‏:‏ 57 ‏)‏

‏{‏وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا، قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ‏}‏

قوله ‏{‏وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا‏}‏يريد بالجنة مبشرا ونذيرا من النار؛ وما أرسلناك وكيلا ولا مسيطرا‏.‏ ‏{‏قل ما أسألكم عليه من أجر‏}‏يريد على ما جئتكم به من القرآن والوحي‏.‏ و‏{‏من‏}‏للتأكيد‏.‏ ‏{‏إلا من شاء‏}‏لكن من شاء؛ فهو استثناء منقطع، والمعنى‏:‏ لكن من شاء ‏{‏أن يتخذ إلى ربه سبيلا‏}‏بإنفاقه من ماله في سبيل الله فلينفق‏.‏ ويجوز أن يكون متصلا ويقدر حذف المضاف؛ التقدير‏:‏ إلا أجر ‏{‏من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا‏}‏باتباع ديني حتى ينال كرامة الدنيا والآخرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 58 ‏)‏

‏{‏وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا ‏}‏

قوله ‏{‏وتوكل على الحي الذي لا يموت‏}‏تقدم معنى التوكل في آل عمران وهذه السورة وأنه اعتماد القلب على الله تعالى في كل الأمور، وأن الأسباب وسائط أمر بها من غير اعتماد عليها‏.‏ ‏{‏وسبح بحمده‏}‏أي نزه الله تعالى عما يصفه هؤلاء الكفار به من الشركاء‏.‏ والتسبيح التنزيه، وقد تقدم‏.‏ وقيل ‏{‏وسبح‏}‏أي وصل له؛ وتسمى الصلاة تسبيحا‏.‏ ‏{‏وكفى به بذنوب عباده خبيرا‏}‏أي عليما فيجازيهم بها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 59 ‏)‏

‏{‏ الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا ‏}‏

قوله ‏{‏الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن‏}‏تقدم في الأعراف‏.‏ و‏{‏الذي‏}‏في موضع خفض نعتا للحي‏.‏ وقال ‏{‏بينهما‏}‏ولم يقل بينهن؛ لأنه أراد الصنفين والنوعين والشيئين؛ كقول القطامي‏:‏

ألم يحزنك أن حبال قيس وتغلب قد تباينتا انقطاعا

أراد وحبال تغلب فثنى، والحبال جمع؛ لأنه أراد الشيئين والنوعين‏.‏ ‏{‏الرحمن فاسأل به خبيرا‏}‏قال الزجاج‏:‏ المعنى فاسأل عنه‏.‏ وقد حكى هذا جماعة من أهل اللغة أن الباء تكون بمعنى عن؛ كما قال ‏{‏سأل سائل بعذاب واقع‏}‏ وقال الشاعر‏:‏

هلا سألت الخيل يا بنة مالك إن كنت جاهلة بما لم تعلمي

وقال علقمة بن عبدة‏:‏

فإن تسألوني بالنساء فإنني خبير بأدواء النساء طبيب

أي عن النساء وعما لم تعلمي‏.‏ وأنكره علي بن سليمان وقال‏:‏ أهل النظر ينكرون أن تكون الباء بمعنى عن؛ لأن في هذا إفسادا لمعاني قول العرب‏:‏ لو لقيت فلانا للقيك به الأسد؛ أي للقيك بلقائك إياه الأسد‏.‏ المعنى فاسأل بسؤالك إياه خبيرا‏.‏ وكذلك قال ابن جبير‏:‏ الخبير هو الله تعالى‏.‏ فـ ‏{‏خبيرا‏}‏نصب على المفعول به بالسؤال‏.‏

قلت‏:‏ قول الزجاج يخرج على وجه حسن، وهو أن يكون الخبير غير الله، أي فاسأل عنه خبيرا، أي عالما به، أي بصفاته وأسمائه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى فاسأل له خبيرا، فهو نصب على الحال من الهاء المضمرة‏.‏ قال المهدوي‏:‏ ولا يحسن حالا إذ لا يخلو أن تكون الحال من السائل أو المسؤول، ولا يصح كونها حالا من الفاعل؛ لأن الخبير لا يحتاج أن يسأل غيره‏.‏ ولا يكون من المفعول؛ لأن المسؤول عنه وهو الرحمن خبير أبدا، والحال في أغلب الأمر يتغير وينتقل؛ إلا أن يحمل على أنها حال مؤكدة؛ مثل‏{‏وهو الحق مصدقا‏}‏ فيجوز‏.‏ وأما ‏{‏الرحمن‏}‏ففي رفعه ثلاثة أوجه‏:‏ يكون بدلا من المضمر الذي في ‏{‏استوى‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هو الرحمن‏.‏ ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء وخبره ‏{‏فاسأل به خبيرا‏}‏‏.‏ ويجوز الخفض بمعنى وتوكل على الحي الذي لا يموت الرحمن؛ يكون نعتا‏.‏ ويجوز النصب على المدح‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 60 ‏)‏

‏{‏وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا ‏}‏

قوله ‏{‏وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن‏}‏أي لله تعالى‏.‏ ‏{‏قالوا وما الرحمن‏}‏على جهة الإنكار والتعجب، أي ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب‏.‏ وزعم القاضي أبو بكر بن العربي أنهم إنما جهلوا الصفة لا الموصوف، واستدل على ذلك، بقوله ‏{‏وما الرحمن‏}‏ولم يقولوا ومن الرحمن‏.‏ قال ابن الحصار‏:‏ وكأنه رحمه الله لم يقرأ الآية الأخرى ‏{‏وهم يكفرون بالرحمن‏}‏ ‏.‏ ‏{‏أنسجد لما تأمرنا‏}‏هذه قراءة المدنيين والبصريين؛ أي لما تأمرنا أنت يا محمد‏.‏ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم‏.‏ وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي‏}‏يأمرنا‏}‏بالياء‏.‏ يعنون الرحمن؛ كذا تأوله أبو عبيد، قال‏:‏ ولو أقروا بأن الرحمن أمرهم ما كانوا كفارا‏.‏ فقال النحاس‏:‏ وليس يجب أن يتأول عن الكوفيين في قراءتهم هذا التأويل البعيد، ولكن الأولى أن يكون التأويل لهم ‏{‏أنسجد لما يأمرنا‏}‏النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتصح القراءة على هذا، وإن كانت الأولى أبين وأقرب تناولا‏.‏ ‏{‏وزادهم نفورا‏}‏أي زادهم قول القائل لهم اسجدوا للرحمن نفورا عن الدين‏.‏ وكان سفيان الثوري يقول في هذه الآية‏:‏ إلهي زادني لك خضوعا ما زاد أعداك نفورا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 61 ‏)‏

‏{‏ تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ‏}‏

قوله ‏{‏تبارك الذي جعل في السماء بروجا‏}‏أي منازل‏.‏ وقد تقدم ذكرها‏.‏ ‏{‏وجعل فيها سراجا‏}‏قال ابن عباس‏:‏ يعني الشمس؛ نظيره؛ ‏{‏وجعل الشمس سراجا‏}‏ ‏.‏ وقراءة العامة‏}‏سراجا‏}‏بالتوحيد‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏}‏سرجا‏}‏يريدون النجوم العظام الوقادة‏.‏ والقراءة الأولى عند أبي عبيد أولى؛ لأنه تأول أن السرج النجوم، وأن البروج النجوم؛ فيجيء المعنى نجوما ونجوما‏.‏ النحاس‏:‏ ولكن التأويل لهم أن أبان بن تغلب قال‏:‏ السرج النجوم الدراري‏.‏ الثعلبي‏:‏ كالزهرة والمشترى وزحل والسماكين ونحوها‏.‏ ‏{‏وقمرا منيرا‏}‏ينير الأرض إذا طلع‏.‏ و روى عصمة عن الأعمش ‏{‏وقمرا‏}‏بضم القاف لع وإسكان الميم‏.‏ وهذه قراءة شاذة، ولو لم يكن فيها إلا أن أحمد بن حنبل وهو إمام المسلمين في وقته قال‏:‏ لا تكتبوا ما يحكيه عصمة الذي يروي القراءات، وقد أولع أبو حاتم السجستاني بذكر ما يرويه عصمة هذا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 62 ‏)‏

‏{‏ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ‏}‏

قوله ‏{‏خلفة‏}‏قال أبو عبيدة‏:‏ الخلفة كل شيء بعد شيء‏.‏ وكل واحد من الليل والنهار يخلف صاحبه‏.‏ ومقال للمبطون‏:‏ أصابته خلفة؛ أي قيام وقعود يخلف هذا ذاك‏.‏ ومنه خلفه النبات، وهو ورق يخرج بعد الورق الأول في الصيف‏.‏ ومن هذا المعنى قول زهير بن أبي سلمى‏:‏

بها العين والآرام يمشين خلفة وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم

الرئم ولد الظبي وجمعه آرام؛ يقول‏:‏ إذا ذهب فوج جاء فوج‏.‏ ومنه قول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبا‏.‏

ولها بالماطرون إذا أكل النمل الذي جمعا

خلفة حتى إذا ارتبعت سكنت من حلق بيعا

في بيوت وسط دسكرة حولها الزيتون قد ينعا

قال مجاهد‏}‏خلفة‏}‏من الخلاف؛ هذا أبيض وهذا أسود؛ والأول أقوى‏.‏ وقيل‏:‏ يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان‏.‏ وقيل‏:‏ هو من باب حذف المضاف؛ أي جعل الليل والنهار ذوي خلفة، أي اختلاف‏.‏ ‏{‏لمن أراد أن يذكر‏}‏أي يتذكر، فيعلم أن الله لم يجعله كذلك عبثا فيعتبر في مصنوعات الله، ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم‏.‏ وقال عمر بن الخطاب وابن عباس والحسن‏:‏ معناه من فاته شيء من الخير بالليل أدركه بالنهار، ومن فاته بالنهار أدركه بالليل‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏ما من امرئ تكون له صلاة بالليل فغلبه عليها نوم فيصلي ما بين طلوع الشمس إلى صلاة الظهر إلا كتب الله له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة‏)‏‏.‏ و‏"‏روى مسلم عن عمر بن الخطاب‏"‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل ‏)‏

قال ابن العربي‏:‏ سمعت ذا الشهيد الأكبر يقول‏:‏ إن الله تعالى خلق العبد حيا عالما، وبذلك كماله، وسلط عليه آفة النوم وضرورة الحدث ونقصان الخلقة؛ إذ الكمال للأول الخالق، فما أمكن الرجل من دفع النوم بقلة الأكل والسهر في طاعة الله فليفعل‏.‏ ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل ستين سنة ينام ليلها فيذهب النصف من عمره لغوا، وينام سدس النهار راحة فيذهب ثلثاه ويبقى له من العمر عشرون سنة، ومن الجهالة والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثي عمره في لذة فانية، ولا يتلف عمره بسهر في لذة باقية عند الغني الوفي الذي ليس بعديم ولا ظلوم‏.‏

الأشياء لا تتفاضل بأنفسها؛ فإن الجواهر والأعراض من حيث الوجود متماثلة، وإنما يقع التفاضل بالصفات‏.‏ وقد اختلف أي الوقتين أفضل، الليل أو النهار‏.‏ وفي الصوم غنية في الدلالة، والله أعلم؛ قاله ابن العربي‏.‏

قلت‏:‏ والليل عظيم قدره؛ أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بقيامه فقال ‏{‏ومن الليل فتهجد به نافلة لك‏}‏ ، وقال ‏{‏قم الليل‏}‏ على ما يأتي بيانه‏.‏ ومدح المؤمنين على قيامه فقال ‏{‏تتجافى جنوبهم عن المضاجع‏}وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وصلاة الرجل في جوف الليل وفيه ساعة يستجاب فيها الدعاء وفيه ينزل الرب تبارك وتعالى‏)‏ حسبما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

قرأ حمزة وحده‏}‏يذْكُر‏}‏بسكون الذال وضم الكاف‏.‏ وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والنخعي‏.‏ وفي مصحف أبي ‏{‏يتذكر‏}‏بزيادة تاء‏.‏ وقرأ الباقون‏}‏يذكر‏}‏بتشديد الكاف‏.‏ ويذكر ويذكر بمعنى واحد‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏يذكر‏}‏بالتخفيف أي ما يذكر ما نسيه في أحد الوقتين في الوقت الثاني، أو ليذكر تنزيه الله وتسبيحه فيها‏.‏ ‏{‏أو أراد شكورا‏}‏يقال‏:‏ شكر يشكر شكرا وشكورا، مثل كفر يكفر كفرا وكفورا‏.‏ وهذا الشكور على أنهما جعلهما قواما لمعاشهم‏.‏ وكأنهم لما قالوا‏}‏وما الرحمن‏}‏قالوا‏:‏ هو الذي يقدر على هذه الأشياء‏.‏